فصل: تفسير الآية رقم (51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (21- 22):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [21- 22].
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} أي: تعتبرون بحالها وتستدلون بها: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} أي: من الألبان: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} أي: في ظهورها وأصوافها وشعورها ونتاجها: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} أي: بخلقه وتسخيره وإلهامه. فله الحمد.
قال الزمخشري: والقصد بالأنعام أي: الإبل، لأنها هي المحمول عليها في العادة. وقرنها بالفلك التي هي السفائن، لأنها سفائن البر.
قال ذو الرمة:
سفينةُ بَرٍّ تحت خَدِّي زِمَامُهَا

قال الشهاب: وجعلُ الإبل سفائن البر معروف مشهور. وهي استعارة لطيفة وقد تصرفوا فيها تصرفات بديعة. كقول بعض المتأخرين:
لِمَنْ شحرٌ أثقلَتْهَا ثمارُها ** سفائنُ بَرٍّ والسَّرَابُ بحارُها

ولما بيّن تعالى دلائل التوحيد، تأثره بقصص بعثة الرسل لعلوّ كلمته، فقال سبحانه:

.تفسير الآيات (23- 25):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [23- 25].
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا} أي: الداعي إلى عبادة الله وحده. بدعوى الرسالة منه: {إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي: أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم، كقوله تعالى: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس: 78]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} أي: إرسال رسول: {لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} أي: من السماء: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} أي: بمثل ما يدعو إليه: {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} أي: لعله يرجع أو يفيق من جنته أو يتمادى فنكيد له. قال الرازيّ: واعلم أنه سبحانه ما ذكر الجواب عن شبههم هذه الخمسة، لركاكتها ووضوح فسادها. وذلك لأن كل عاقل يعلم أن الرسول لا يصير رسولاً إلا لأنه من جنس الملك. وإنما يصير كذلك بأن يتميز من غيره بالمعجزات. فسواء كان من جنس الملك أو جنس البشر، فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولاً. بل جعلُ الرسول من جملة البشر أولى. لما مرّ بيانه في السورة المتقدمة. وهو أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة. وأما قولهم: {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} فإن أرادوا به إرادته لإظهار فضله، حتى يلزمهم الانقياد لطاعته، فهذا واجب على الرسول. وإن أرادوا به أن يرتفع عليهم على سبيل التجبر والتكبر والانقياد، فالأنبياء منزّهون عن ذلك. وأما قولهم: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} فهو استدلال بعدم التقليد، على عدم وجود الشيء. وهو في غاية السقوط. لأن وجود التقليد لا يدل على وجود الشيء. فعدمه من أن يدل على عدمه؟ وأما قولهم: {بِهِ جِنَّةٌ} فقد كذبوا. لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله. وأما قولهم: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ} فضعيف. لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوّته وهي المعجزة، وجب عليهم قبول قوله في الحال، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته. لأن الدولة لا تدل على الحقيقة. وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله، سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر. ولما كانت هذه الأجوبة في نهاية الظهور، لا جرم تركها الله سبحانه، انتهى.

.تفسير الآيات (26- 30):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيات وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} [26- 30].
{قَالَ} أي: بعد ما أيس من إيمانهم: {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} أي: ملتبساً بحفظنا وكلاءتنا، لا تلحقها آفة ولا يعترضها نقص عبر بكثرة آلة الحس التي بها يحفظ الشيء، ويراعى من الاختلال والزيغ، عن المبالغة في الحفظ والرعاية، على طريق التمثيل، وقيل: المعنى بمرأى منا ومشهد في حفظنا وكلاءتنا. بناء على أن المراد بالعين البصر، وأنه يسمى البصر عيناً لأجل أنه مما يتعلق به ويقوم به. من باب تسمية الشيء باسم محله. وباسم ما هو قائم به.
قال الإمام ابن فورك في متشابه الحديث- بعد حكاية نحو ما تقدم-: وقد اختلف أصحابنا فيما يثبت لله عزّ وجلّ من الوصف له بالعين. فمنهم من قال: إن المراد به البصر والرؤية. ومنهم من قال: إن طريق إثباتها صفة لله تعالى بالسمع. وسبيل القول فيها كسبيل القول في اليد والوجه. انتهى.
ومذهب السلف، أن الصفات يحتذى فيها حذو الذات، فكما أنها منزهة عن التشبيه والتمثيل والتكييف، فكذلك الصفات إثباتها منزه عن ذلك وعن التحريف والتأويل. وقوله تعالى: {وَوَحْيِنَا} أي: أمرنا وتعليمنا كيف تصنع: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} أي: عذابنا: {وَفَارَ التَّنُّورُ} كناية عن الشدة. كقولهم: حمي الوطيس. والتنور: كانون الخبز حقيقة. وأطلقه بعضهم على وجه الأرض ومنبع الماء، للآية مجازاً: {فَاسْلُكْ فِيهَا} أي: فأدخل في الفلك: {مِنْ كُلٍّ} أي: من كل أمة: {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: في الدعاء لهم بالنجاة، عند مشاهدة هلاكهم: {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أي: في بحر الهلاك، كما غرقوا في بحر الضلال وظلمهم أنفسهم، بعد أن أملى لهم الدهر المتطاول: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي} أي: في السفينة أو منها: {مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} أي: لمن أنزلته منزل قربك: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي فيما فعل بنوح وقومه: {لَآيات} أي: يَستدل بها ويعتبر أولو الأبصار: {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أي: مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد. أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا، لننظر من يعتبر ويدّكر. كقوله تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 15]، وإن مخففة على الأصح- وقيل نافية. واللام بمعنى إلا والجملة حالية.

.تفسير الآية رقم (31):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [31].
{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} هم عاد أو ثمود. قال الشهاب: ليس في الآية تعيين لهؤلاء. لكن الأول مأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما. وأيده في الكشف بمجيء قصتهم بعد قصة نوح في سورة الأعراف وهود وغيرهما. وعليه أكثر المفسرين. ون ذهب إلى أنهم ثمود قوم صالح عليه السلام، استدل بذكر الصيحة لأنهم المهلكون بها. كما صرح به في هذه السورة.

.تفسير الآيات (32- 41):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [32- 41].
{فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ} أي: نعّمناهم: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} أي: لعزة أنفسكم، بالتذلل لمثلكم: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} أي من الأجداث أحياء كما كنتم: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} تكرير لتأكيد البعد. أي: بَعُدَ الوقوعُ أو الصحةُ لما توعدون من البعث: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي: يموت بعض ويولد بعض. لينقرض قرن ويأتي قرن آخر {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} أي: العقوبة الهائلة، أو صيحة ملك: {بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} أي: كغثاء السيل: {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: هلاكاً لهم. إخبار أو دعاء.

.تفسير الآيات (42- 45):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِين مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [42- 45].
{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِين مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} أي: وقتها الذي عين لهلاكها: {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} أي: متواترين، واحداً بعد واحد: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} أي: في الإهلاك: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي: أخباراً يُسمر بها ويُتعجب منها. يعني أنهم فنوا ولم يبق إلا خبرهم، إن خيراً وإن شرّاً.
وإنما المرء حديث بعده ** فكن حديثاً حسناً لمن وعى

{فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي: حجة واضحة ملزمة للخصم. والمراد به الآيات نفسها. عبر عنها بذلك على طريقة العطف، على جمعها لعنوانين جليلين.

.تفسير الآيات (46- 48):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [46- 48].
{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا} أي: عن الانقياد وإرسال بني إسرائيل مع موسى لأرض كنعان، وتحريرهم من تلك العبودية لهم: {وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ} أي: متمردين: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} أي: المغرقين في البحر.
فائدة:
قال الزمخشري: البشر يكون واحداً وجمعاً: {بَشَراً سَوِيّاً} [17]، {لِبَشَرَيْنِ} [47]، {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ} [26]، ومثل وغير يوصف بهما الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]، {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]، ويقال أيضاً: هما مثلاه وهم أمثاله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194].

.تفسير الآيات (49- 50):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [49- 50].
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} أي: التوراة: {لَعَلَّهُمْ} أي: قومه: {يَهْتَدُونَ} أي: إلى طريق الحق، بما فيها من الشرائع والأحكام: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} أي: دلالة على قدرتنا الباهرة. لأنها ولدته من دون مسيس. فالآية أمر واحد نسب إليهما. أو المعنى: وجعلنا ابن مريم آية بما ظهر منه من الخوارق، وأمه آية بأنها ولدته من غير مسيس فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها: {وَآوَيْنَاهُمَا} أي: جعلنا مأواهما أي: منزلهما: {إِلَى رَبْوَةٍ} أي: أرض مرتفعة {ذَاتِ قَرَارٍ} أي: مستقر من أرض منبسطة مستوية. وعن قتادة: ذات ثمار وماء. يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها: {وَمَعِينٍ} أي: وماء معين ظاهر جارٍ. من معن الماء إذا جرى أو مدرك بالعين من عانه إذا أدركه بعينه.

.تفسير الآية رقم (51):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [51].
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} نداء وخطاب لجميع الأنبياء باعتبار زمان كلٍّ وعهده. فدخل فيه عيسى دخولاً أوليًّا. أو يكون ابتداء كلام ذكر تنبيهاً على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة. وأن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم. واحتجاجاً على الرهابنة في رفض الطيبات. وقوله:: {وَاعْمَلُوا صَالِحاً} أي: عملاً صالحاً. فإنه الذي به سعادة الدارين. وقوله: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي: ذو علم لا يخفى عليّ منها شيء. فأنا مجازيكم بجميعها، وموفيكم أجوركم وثوابكم عليها، فخذوا في صالحات الأعمال واجتهدوا.

.تفسير الآية رقم (52):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [52].
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} أي: واعلموا أن هذه ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها: {أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: ملة واحدة، وهي شريعة الإسلام. إسلام الوجه لله تعالى بعبادته وحده. كقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عِمْرَان: 19]، فالأمة هنا بمعنى: الملة والدين: {وَأَنَا رَبُّكُمْ} أي: من غير شريك: {فَاتَّقُونِ} أي: فخافوا عقابي، في مفارقة الدين والجماعة. قيل إنه اختير على قوله: {فَاعْبُدُونِ} الواقع في سورة الأنبياء، لأنه أبلغ في التخويف، لذكره بعد إهلاك الأمم، بخلاف ما ثمة وهذا بناء على أنه تذييل للقصص السابقة، أو لقصة عيسى عليه الصلاة والسلام، لا ابتداء كلام. فإنه حينئذ لا يفيده. إلا أن يراد أنه وقع في حكاية لهذه المناسبة. كذا في العناية.
ثم قص ما وقع من أمم الرسل بعدهم من مخالفة الأمر، بقوله تعالى:

.تفسير الآيات (53- 54):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [53- 54].
{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} أي: جعلوا دينهم بينهم قطعاً وفرقاً منوعة: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي: كل فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم، فرح بباطله، مطمئن النفس، معتقد أنه على الحق: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} أي: في جهالتهم، ومشيهم مع هواهم، ونبذهم كتاب الله: {حَتَّى حِينٍ} أي: إلى وقت يستفيقون فيه من سباتهم، بظهور دين الله وعلو كلمته وهزم عدوه. وشبه جهالتهم بالماء الذي يغمر القامة، لأنهم مغمورون فيها.